سورة الذاريات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الذاريات)


        


{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}
وفي المقسم عليه وجوه:
أحدها: {مَّا تُوعَدُونَ} أي ما توعدون لحق يؤيده قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لصادق} [الذاريات: 5] وعلى هذا يعود كل ما قلناه من وجوه {مَّا تُوعَدُونَ} إن قلنا إن ذلك هو الجنة فالمقسم عليه هو هي. ثانيها: الضمير راجع إلى القرآن أي أن القرآن حق وفيما ذكرناه في قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ} [الذاريات: 9] دليل هذه وعلى هذا فقوله: {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} معناه تكلم به الملك النازل من عند الله به مثل ما أنكم تتكلمون وسنذكره. ثالثها: أنه راجع إلى الدين كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6]. رابعها: أنه راجع إلى اليوم المذكور في قوله: {أَيَّانَ يَوْمُ الدين} [الذاريات: 12] يدل عليه وصف الله اليوم بالحق في قوله تعالى: {ذَلِكَ اليوم الحق} [النبأ: 39].
خامسها: أنه راجع إلى القول الذي يقال: {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] وفي التفسير مباحث:
الأول: الفاء تستدعي تعقيب أمر لأمر فما الأمر المتقدم؟ نقول فيه وجهان. أحدهما: الدليل المتقدم كأنه تعالى يقول: إن ما توعدون لحق بالبرهان المبين، ثم بالقسم واليمين. ثانيهما: القسم المتقدم كأنه تعالى يقول: {والذريات} ثم {وَرَبُّ السماء والأرض} وعلى هذا يكون الفاء حرف عطف أعيد معه حرف القسم كما يعاد الفعل إذ يصح أن يقال ومررت بعمرو، فقوله: {والذريات ذَرْواً فالحاملات وِقْراً} [الذاريات: 1، 2] عطف من غير إعادة حرف القسم، وقوله: {فَوَرَبّ السماء} مع إعادة حرفه، والسبب فيه وقوع الفصل بين القسمين، ويحتمل أن يقال الأمر المتقدم هو بيان الثواب في قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] وقوله: {إِنَّ المتقين فِي جنات} [الذاريات: 15] وفيه فائدة، وهو أن الفاء تكون تنبيهاً على أن لا حاجة إلى اليمين مع ما تقدم من الكشف المبين، فكأنه يقول ورب السماء والأرض إنه لحق، كما يقول القائل بعدما يظهر دعواه هذا والله إن الأمر كما ذكرت فيؤكد قوله باليمين، ويشير إلى ثبوته من غير يمين.
البحث الثاني: أقسم من قبل بالأمور الأرضية وهي الرياح وبالسماء في قوله: {والسماء ذَاتِ الحبك} [الذاريات: 7] ولم يقسم بربها، وهاهنا أقسم بربها نقول كذلك الترتيب يقسم المتكلم أولاً بالأدنى فإن لم يصدق به يرتقي إلى الأعلى، ولهذا قال بعض الناس إذا قال قائل وحياتك، والله لا يكفر وإذا قال: والله وحياتك لا شك يكفر وهذا استشهاد، وإن كان الأمر على خلاف ما قاله ذلك القائل لأن الكفر إما بالقلب، أو باللفظ الظاهر في أمر القلب، أو بالفعل الظاهر، وما ذكره ليس بظاهر في تعظيم جانب غير الله، والعجب من ذلك القائل أنه لا يجعل التأخير في الذكر مفيداً للترتيب في الوضوء وغيره.
البحث الثالث: قرئ مثل بالرفع وحينئذ يكون وصفاً لقوله لحق ومثل وإن أضيف إلى المعرفة لا يخرجه عن جواز وصف المنكر به، تقول رأيت رجلاً مثل عمرو، لأنه لا يفيده تعريفاً لأنه في غاية الإبهام وقرئ: {مَثَلُ} بالنصب، ويحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى ما هو ضعيف وإلا جاز أن يقال زيد قاتل من يعرفه أو ضارب من يشتمه. ثانيهما: أن يكون منصوباً على البيان تقديره لحق حقاً مثل، ويحتمل أن يقال إنه منصوب على أنه صفة مصدر معلوم غير مذكور، ووجهه أنا دللنا أن المراد من الضمير في قوله: {إِنَّهُ} هو القرآن فكأنه قال إن القرآن لحق نطق به الملك نطقاً {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} وما مجرور لا شك فيه.


{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)}
إشارة إلى تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين كون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته في بعض الأشياء، وإنذار لقومه بما جرى من الضيف، ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان المراد ما ذكرت من التسلية والإنذار فأي فائدة في حكاية الضيافة؟ نقول ليكون ذلك إشارة إلى الفرج في حق الأنبياء، والبلاء على الجهلة والأغبياء، إذا جاءهم من حيث لا يحتسب.
قال الله تعالى: {فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} [الحشر: 2] فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع مكانته.
المسألة الثانية: كيف سماهم ضيفاً ولم يكونوا؟ نقول لما حسبهم إبراهيم عليه السلام ضيفاً لم يكذبه الله تعالى في حسابه إكراماً له، يقال في كلمات المحققين الصادق يكون ما يقول، والصديق يقول ما يكون.
المسألة الثالثة: ضيف لفظ واحد والمكرمين جمع، فكيف وصف الواحد بالجمع؟ نقول الضيف يقع على القوم، يقال قوم ضيف ولأنه مصدر فيكون كلفظ الرزق مصدراً، وإنما وصفهم بالمكرمين إما لكونهم عباداً مكرمين كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وإما لإكرام إبراهيم عليه السلام إياهم، فإن قيل: بماذا أكرمهم؟ قلنا ببشاشة الوجه أولاً، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانياً، وتعجيل القرى ثالثاً، وبعد التكليف للضيف بالأكل والجلوس وكانوا عدة من الملائكة في قول ثلاثة جبريل وميكائيل وثالث، وفي قول عشرة، وفي آخر اثنا عشرة.
المسألة الرابعة: هم أرسلوا للعذاب بدليل قولهم: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الذاريات: 32] وهم لم يكونوا من قوم إبراهيم عليه السلام، وإنما كانوا من قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام؟ نقول فيه حكمة بالغة، وبيانها من وجهين. أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين وكان لوط من قومه ومن إكرام الملك للذي في عهدته وتحت طاعته إذا كان يرسل رسول إلى غيره يقول له اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه.
وثانيهما: هو أن الله تعالى لما قدر أن يهلك قوماً كثيراً وجماً غفيراً، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على عباده قال لهم بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف ما يهلك، ويكون من صلبه خروج الأنبياء عليهم السلام.


{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما العامل في إذ؟ فيه وجوه:
أحدها: ما في المكرمين من الإشارة إلى الفعل إن قلنا وصفهم بكونهم مكرمين بناء على أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم فيكون كأنه تعالى يقول: أكرموا إذ دخلوا، وهذا من شأن الكريم أن يكرم ضيفه وقت الدخول. ثانيها: ما في الضيف من الدلالة على الفعل، لأنا قلنا إن الضيف مصدر فيكون كأنه يقول: أضافهم إذ دخلوا.
وثالثها: يحتمل أن يكون العامل فيه أتاك تقديره ما أتاك حديثهم وقت دخولهم، فاسمع الآن ذلك، لأن هل ليس للاستفهام في هذا الموضع حقيقة بل للإعلام، وهذا أولى لأنه فعل مصرّح به، ويحتمل أن يقال اذكر إذ دخلوا.
المسألة الثانية: لماذا اختلف إعراب السلامين في القراءة المشهورة؟ نقول: نبين أولاً وجوه النصب والرفع، ثم نبيّن وجوه الاختلاف في الإعراب، أما النصب فيحتمل وجوهاً:
أحدها: أن يكون المراد من السلام هو التحية وهو المشهور، ونصبه حينئذ على المصدر تقديره نسلم سلاماً. ثانيها: هو أن يكون السلام نوعاً من أنواع الكلام وهو كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم فكأنهم لما دخلوا عليه فقالوا حسناً سلموا من الإثم، وحينئذ يكون مفعولاً للقول لأن مفعول القول هو الكلام، يقال قال فلان كلاماً، ولا يكون هذا من باب ضربه سوطاً لأن المضروب هناك ليس هو السوط، وهاهنا القول هو الكلام فسره قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] وقوله تعالى: {قِيلاً سلاما سلاما} [الواقعة: 21].
ثالثها: أن يكون مفعول فعل محذوف تقديره نبلغك سلاماً، لا يقال على هذا إن المراد لو كان ذلك لعلم كونهم رسل الله عند السلام فما كان يقول: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ولا كان يقرب إليهم الطعام، ولما قال: {نَكِرَهُمْ وأوجس} [هود: 70] لأنا نقول جاز أن يقال إنهم قالوا: نبلغك سلاماً ولم يقولوا من الله تعالى إلى أن سألهم إبراهيم عليه السلام ممن تبلغون لي السلام، وذلك لأن الحكيم لا يأتي بالأمر العظيم إلا بالتدريج فلما كانت هيبتهم عظيمة، فلو ضموا إليه الأمر العظيم الذي هو السلام من الله تعالى لانزعج إبراهيم عليه السلام، ثم إن إبراهيم عليه السلام اشتغل بإكرامهم عن سؤالهم وآخر السؤال إلى حين الفراغ فنكرهم بين السلام والسؤال عمن منه السلام هذا وجه النصب، وأما الرفع فنقول يحتمل أن المراد منه السلام الذي هو التحية وهو المشهور أيضاً، وحينئذ يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره سلام عليكم، وكون المبتدأ نكرة يحتمل في قول القائل سلام عليكم وويل له، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره قال جوابه سلام، ويحتمل أن يكون المراد قولاً يسلم به أو ينبئ عن السلامة فيكون خبر مبتدأ محذوف تقديره أمري سلام بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم لأني لا أعرفكم، أو يكون المبتدأ قولكم، وتقديره قولكم سلام ينبئ عن السلامة وأنتم قوم منكرون فما خطبكم فإن الأمر أشكل عليَّ وهذا ما يحتمل أن يقال في النصب والرفع، وأما الفرق فنقول أما على التفسير المشهور وهو أن السلام في الموضعين بمعنى التحية فنقول الفرق بينهما من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
أما من حيث اللفظ: فنقول سلام عليك إنما جوز واستحسن لكونه مبتدأ وهو نكرة، من حيث إنه كالمتروك على أصله لأن الأصل أن يكون منصوباً على تقدير أسلم سلاماً وعليك يكون لبيان من أريد بالسلام، ولا يكون لعليك حظ من المعنى غير ذلك البيان فيكون كالخارج عن الكلام، والكلام التام أسلم سلاماً، كما أنك تقول ضربت زيداً على السطح يكون على السطح خارجاً عن الفعل والفاعل والمفعول لبيان مجرد الظرفية، فإذا كان الأمر كذلك وكان السلام والأدعية كثير الوقوع، قالوا نعدل عن الجملة الفعلية إلى الإسمية ونجعل لعليك حظاً في الكلام، فنقول سلام عليك، فتصير عليك لفائدة لابد منها، وهي الخبرية، ويترك السلام نكرة كما كان حال النصب، إذا علم هذا فالنصب أصل والرفع مأخوذ منه، والأصل مقدم على المأخوذ منه، فقال: {قَالُواْ سلاما قَالَ سلام} قدم الأصل على المتفرع منه.
وأما من حيث المعنى: فذلك لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن، فأتى بالجملة الإسمية فإنها أدل على الدوام والاستمرار، فإن قولنا جلس زيد لا ينبئ عنه لأن الفعل لابد فيه من الإنباء عن التجدد والحدوث ولهذا لو قلت: الله موجود الآن لأثبت العقل الدوام إذ لا ينبئ عن التجدد، ولو قال قائل: وجد الله الآن لكاد ينكره العاقل لما بينا فلما قالوا: سلاماً قال: سلام عليكم مستمر دائم، وأما على قولنا المراد القول ذو السلامة فظاهر الفرق، فإنهم قالوا قولاً ذا سلام، وقال لهم إبراهيم عليه السلام: سلام أي قولكم ذو سلام وأنتم قوم منكرون فالتبس الأمر عليّ، وإن قلنا المراد أمر مسالمة ومتاركة وهم سلموا عليه تسليماً، فنقول فيه جمع بين أمرين: تعظيم جانب الله، ورعاية قلب عباد الله، فإنه لو قال: سلام عليكم وهو لم يعلم كونهم من عباد الله الصالحين كان يجوز أن يكونوا على غير ذلك، فيكون الرسول قد أمنهم، فإن السلام أمان وأمان الرسول أمان المرسل فيكون فاعلاً للأمر من غير إذن الله نيابة عن الله فقال: أنتم سلمتم عليّ وأنا متوقف أمري متاركة لا تعلق بيننا إلى أن يتبين الحال ويدل على هذا هو أن الله تعالى قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] وقال في مثل هذا المعنى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سلام} [الزخرف: 89] ولم يقل قل سلاماً، وذلك لأن الأخيار المذكورين في القرآن لو سلموا على الجاهلين لا يكون ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم لو سلم عليهم لصار ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم، فقال: قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر، وأما على قولنا بمعنى نبلغ سلاماً فنقول هم لما قالوا نبلغك سلاماً ولم يعلم إبراهيم عليه السلام أنه ممن قال سلام أي إن كان من الله فإن هذا منه قد ازداد به شرفي وإلا فقد بلغني منه سلام وبه شرفي ولا أتشرف بسلام غيره، وهذا ما يمكن أن يقال فيه، والله أعلم بمراده الأول والثاني عليهما الاعتماد فإنهما أقوى وقد قيل بهما.
المسألة الثالثة: قال في سورة هود: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود: 70] فدل على أن إنكارهم كان حاصلاً بعد تقريبه العجل منهم وقال هاهنا: {قَالَ سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10